النسخة الأصلية كتبت في تاريخ 14 تشرين ثاني، 2007
عـبد الله الحـوراني
بتاريخ 2000/12/22، وعندما كانت المفاوضات تجري في طابا بين الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي، كتبت مقالة ـ نشرت علي نطاق واسع في الصحافة المحلية والعربية ـ تحت عنوان رسالة لاجئ فلسطيني إلي أخيه المفاوض حملت ثوابت الرؤية الفلسطينية تجاه حق العودة، من تمسك به، وإصرار عليه، ورفض لمبدأ التوطين أو التعويض أو المساومة علي هذا الحق، أو مبادلته بأية حقوق أخري. وكان من بين ما جاء في هذه الرسالة: إنهم سيحاولون مقايضتك بأن يعرضوا عليك جزءً من القدس أو الحرم الشريف، مقابل تنازلك عن حق اللاجئين في العودة، فقل لهم: القدس جزءٌ من القضية، لكن عودة اللاجئين هي القضية كلها. والقدس قطعة من الوطن، واللاجئون هم الوطن كله. ولا يعني ذلك المفاضلة بين القضيتين، ولا تقديم إحداهما علي الأخري من حيث الأهمية، وإنما لتأكيد أهميتهما معاً، ومكانتهما لدي شعبنا العربي والفلسطيني. ولا نقصد بذلك وضع عودة اللاجئين عقبة في طريق عودة القدس، إن كانت هناك إمكانية لاستعادة القدس أو أي جزء منها. ولا عقبة في طريق إقامة الدولة المستقلة، إن كانت هناك إمكانية لإقامتها. وإن شعبنا سيرحب بإنجاز أي حق من حقوقه، لكنه لن يقبل أن يمر طريق الدولة أو القدس، عبر التضحية بحق اللاجئين في العودة، أو التنازل عنه .
وجاءَ في الرسالة أيضاً إنهم سيساومونك علي التعويض عن ثمن الأرض، فلا تقبل به. ذلك أن الوطن ليس قتيلا حتي نقبل دية فيه. فأرضنا ما زالت ماثلة أمام أعيننا بكل نبض الحياة فيها. وكل الحنين لعودة الأهل إليها .
وجاء في ختام الرسالة إنه بغض النظر عما يقال من أن الأوضاع والمواقف السياسية الإسرائيلية والدولية القائمة تشير إلي أن تطبيق حق العودة غير متاح الآن، فإن ما يجب علي كل الأطراف معرفته هو أن التفريط في حق العودة غير مباح أبداً. وفي وعيك لهذه المسألة ـ أيها الأخ المفاوض ـ وتمسكك بها، يكمن فصل الخطاب. بل إن موقفك من هذه القضية، هو الذي يحدد موقفنا منك. فهذه القضية هي البند الأساسي في العقد الموقع بين منظمة التحرير وشعبنا الفلسطيني. والإخلال بها يبطل صحة هذا العقد، ويمس بقاعدة الوحدة الوطنية التي قامت عليها منظمة التحرير الفلسطينية، ويفتح الطريق أمام القوي المتربصة بوحدة شعبنا للعبث بهذه الوحدة. والطعن بشرعية التمثيل. فلنوصد هذا الباب في وجه هؤلاء المتربصين. ونظن أن مغلاق الباب هو الآن بين يديك، فاحرص عليه .
كانت هذه بعض مضامين الرسالة الأولي، أما الرسالة الثانية التي حملت نفس العنوان تقريبا رسالة لاجئ فلسطيني إلي أخيه أبي مازن . فقد كتبت ونشرت ووجهت للأخ أبو مازن في 2005/1/30 أي بعد تسلمه مقاليد السلطة ورئاسة منظمة التحرير، وبعد زيارته لمخيمات الشتات في سورية ولبنان. وقد حملت نفس مضامين الرسالة الأولي. وقد جاء فيها أيضاً تنبيه للأخ أبو مازن لخطر فلسطيني داخلي علي حق العودة، يتساوق مع الخطر الإسرائيلي والخارجي، ويتزامن معه، ويتمثل في مواقف وتصرفات شخصيات قيادية في أعلي هيئة قيادية فلسطينية (اللجنة التنفيذية للمنظمة) ومسؤولين في السلطة. يتفاوضون علي حق العودة من وراء الشعب الفلسطيني، ويقدمون مبادرات، ويوقعون اتفاقات تنتهك حق العودة، مع أطراف إسرائيلية. وطالبناه ـ كما سبق أن طالبنا الشهيد الراحل أبو عمار، بوقف هذه التحركات والتصرفات، وردع أصحابها ومحاسبتهم.
ومما جاء في رسالتنا للأخ أبو مازن حين يطرح عليك الإسرائيليون موضوع توطين اللاجئين في الخارج، فجوابنا وجوابك عليهم هو أن شعبك رفض ذلك منذ سبعة وخمسين عاماً، ولو ارتضي لنفسه وطنا بديلاً، وأرضاً غير أرضه، لما انتظر كل هذه المدة، ولما احتفظ بصفة اللجوء، واحتمل عذاباته كل هذي السنين. وإن تحججوا بأن فلسطين هي أرض الميعاد. فقل لهم: إن كان لا بد لطرف أن يعترض علي وجود الآخر، فنحن من يعترض، لأننا أصحاب الأرض وهم الطارئون. وإن تذرعوا بأن مساحة أرض فلسطين لا تتسع لنا ولهم، فإن مقولتهم تسقط حين نشير إلي أن 80% من مساحة الأرض التي تقوم عليها إسرائيل لا يعيش فيها الآن أكثر من 20% من اليهود. أي أن غالبية الأرض شبه خالية من السكان، وهي تتسع لمالكيها الحقيقيين، الأقدر علي إعمارها واستثمارها، وهم الأولي بها من أولئك الأغراب الذين تستوردهم حكومة إسرائيل كبضاعة بشرية من أصقاع روسيا، أو أدغال أثيوبيا، أو أنحاء أمريكا اللاتينية. لولا النظرة العنصرية التي يتعامل بها قادة إسرائيل مع الآخرين .
وجاء أيضاً سيحاولون تشويه معني العودة، وتحريف مفهومه، بحصره في الحديث عن عودة لاجئي الخارج فقط، أو جزء منهم، إلي مناطق السلطة أو الدولة الفلسطينية. وردنا علي ذلك، أن لأي فلسطيني من أي مكان، الحق في القدوم إلي الدولة الفلسطينية، والإقامة فيها، وحمل جنسيتها، وذلك أمر خارج نطاق التفاوض. أما عودة اللاجئين، فلها مفهوم واحد ومحدد، هو عودتهم إلي أراضيهم وممتلكاتهم التي هجروا منها عام 1948. وذلك ينطبق علي لاجئي الخارج، كما ينطبق علي لاجئي الداخل الذين يصل عددهم إلي مليوني لاجئ يقيمون في الضفة والقطاع. كما يخص هذا الحق أولئك المهجرين من قراهم ومدنهم من أهلنا في الجليل والمثلث والنقب، والذين يزيدون عن ربع مليون إنسان .
وقد أوضحنا للأخ أبو مازن أننا ندرك حجم العقبات التي تقف الآن في طريق تمكين اللاجئين من ممارسة حقهم في العودة إلي أراضيهم وممتلكاتهم، لكن هذه الظروف لا يمكن أن تقنع شعبنا بعدم الإصرار علي ضرورة إقرار إسرائيل، واعترافها بحق جميع اللاجئين المشروع في العودة، كمسألة مبدئية وثابتة. وتبقي مسألة تطبيق هذا الحق هي موضوع البحث من حيث آلية التنفيذ، وكيفيتها، والمدة التي تستغرقها، وتوفير شروط استيعابهم وتأهيلهم في أراضيهم الأصلية، والأعداد التي يمكن استيعابها سنوياً، حتي لو استغرق الأمر سنوات وسنوات. وبذلك نكون قد ثبتنا حق العودة من جهة، وقطعنا الطريق، من جهة أخري، علي ادعاءات إسرائيل بعدم قدرتها علي استيعاب ملايين العائدين، وفضحنا، في كل الحالات، منطقها الاستعماري العنصري الذي هو أساس المشكلة.
وقد اهتمت الصحافة الإسرائيلية بهذه الرسائل، وعلقت عليها، مشيرة إلي مدي تمسك الشعب الفلسطيني ولاجئيه بحق العودة. وكان من أهم هذه التعقيبات ما كتبه الصحافي الإسرائيلي داني روبنشتاين في صحيفة هآرتس بتاريخ 30 كانون الثاني (يناير) 2001 قائلاً، عبد الله الحوراني يقول: إن عناويننا الدائمة كلاجئين، واحدة وثابتة، وهي ليست حيث نعيش في مخيمات الداخل أو الشتات أو خارجها، وإنما هي منقوشة علي جذور الأشجار التي بقيت تحرس أرضنا، وتضرب عميقاً فيها، أو في نبتة صبر تخز أشواكها كل من يريد اقتلاعها. وتدل عليها عظام الآباء والأجداد التي رفضت الرحيل، وبقيت تؤنس بعضها بعضاً، وتتواصل أرحامها حتي يعود إليها الأبناء والأحفاد الذين طال بهم الغياب .
ويعقب داني روبنشتاين علي قول الحوراني: إن إسرائيل تستورد مجموعات ضخمة ومتتالية من الأجانب من أصقاع روسيا وغابات أفريقيا حتي تسد طريق عودتنا بالقول: إن هذه العبارات تخلق انطباعاً بأن حلم الفلسطينيين في العودة هو شيء حقيقي جداً، ويمكن تحقيقه فعلاً. وما دام هناك مساحات شاسعة ممتدة من الأراضي الفارغة داخل حدود الخط الأخضر في دولة إسرائيل (كما يقول الحوارني). وما دامت إسرائيل تستوعب مئات الآلاف من غير اليهود، فلماذا لا تعود الجماهير الفلسطينية اللاجئة التي اقتلعت من أرضها في عام 1948 إلي أرضها؟ .
ويضيف: الحوراني يذكر أخاه المفاوض مع إسرائيل إن بيننا وبينك عهداً تعهدت فيه باسترجاع حقوقنا، وهذا العهد وقعنا عليه مع منظمة التحرير عندما نالت تفويضنا لها بأن تمثلنا. حتي أن الحوراني هنا يوجه تهديداً ضمنيا لعرفات (يجب عليك الالتزام بشروط العهد، وإلا تحملت عواقب الإخلال به) .
ولم تكن هذه هي المرة الأولي التي تتابع فيها الصحافة الإسرائيلية تحركاتنا ونشاطاتنا السياسية والفكرية في مجال الدفاع عن حق العودة. فقد كتب داني روبنشتاين نفسه مقالة في حزيران (يونيو) 1996 تحت عنوان الحوراني يفجر قنابل في المخيمات المنسية ، وكان ذلك تعقيبا علي الحركة النشطة التي نظمناها في قطاع غزة قبل أحد عشر عاما من الآن (عام 1996) لتوعية وتعبئة وحشد اللاجئين في مخيمات القطاع ومدنه للتمسك بحقهم في العودة والدفاع عنه، والتي نتج عنها تشكيل اللجان الشعبية للاجئين في مخيمات القطاع. وكان هذا التحرك من أوائل التحركات الشعبية الفلسطينية لتوعية اللاجئين وتنظيمهم للدفاع عن حقوقهم، وتشجيع كل الساحات التي يتواجد فيها الفلسطينيون في الداخل والخارج لخلق مثل هذا الحراك السياسي الشعبي، والربط بين حقوق اللاجئين في الداخل والخارج، ونفي المفاهيم التي يسوقها البعض، والتي تلغي حقوق لاجئي الداخل في العودة باعتبارهم يعيشون علي أرض فلسطينية.
وقد أثارت مثل هذه التحركات قلق الإسرائيليين، مما دفعهم لوصفها بالقنابل المتفجرة في المخيمات. كما دفعتهم للضغط علي السلطة الفلسطينية لوقف نشاطاتي، واستبعادي عن هذا الميدان، والضغط علي مجموعات الشباب التي تشاركت معها في خلق هذه الحركة... لكن ذلك لم يحل، بالطبع، دون مواصلتي العمل، حتي الآن، في هذا الميدان، سياسياً وفكرياً، داخل الوطن، وخارجه، وبالتواصل مع الهيئات والجمعيات الناشطة في هذا المجال، لتطوير وتعزيز الحركة الشعبية للدفاع عن حق العودة.
واليوم، وفي ظل تنامي الحديث عن قضية اللاجئين وحقهم في العودة، في سياق التحركات والاتصالات واللقاءات الجارية تحضيراً لما يسمي مؤتمر السلام الدولي الذي سيعقد في أواخر تشرين الثاني (نوفمبر) القادم..... أكتب رسالتي الثالثة.
وقبل أن أبدأ في كتابة الرسالة، أقدم لها بذكر بعض الوقائع والمواقف التي يمكن أن تشكل ورقة بأيدينا نحاسب كل من يخرج عن مضامينها.
أولاً ـ قبل أن يتوجه الأخ أبو مازن إلي اجتماع كامب ديفيد في تموز (يوليو) 2000، بصحبة الشهيد ياسر عرفات، اتصلت به هاتفيا مذكراً إياه بضرورة التمسك بحق العودة. فكان جوابه، وقبل أن أسترسل في الحديث. تقطع يدي ولا أتنازل عن حق العودة . فكان هذا الجواب هو أقصي ما يمكن أن أتوقعه أو أطمح إليه.
ثانيا ـ وبعد عودته من كامب ديفيد، التقيته فروي لي قصة حدثت أثناء المفاوضات بحضور الوفود الثلاثة، الأمريكي برئاسة كلينتون، الإسرائيلي برئاسة باراك، والفلسطيني طبعاً برئاسة أبو عمار. وكان الموضوع المثار هو موضوع اللاجئين، وكان البعض يولي اهتماماً أكبر بقضية لاجئي لبنان نظراً لأوضاعهم الصعبة. وعندما تدخل أبو مازن في الحديث قال: إن حقوق اللاجئين في العودة إلي أراضيهم متساوية اينما كانوا، وبجميع أعدادهم، وأن الاجتماع لو أقر بحق العودة لأربعة ملايين لاجئ، ورفض حق العودة لبقيتهم فإنه لن يوافق. عندها صرخ كلينتون مستغرباً ومتسائلاً عن سبب هذا الموقف؟ فأجابه أبو مازن: إنه لو تم استثناء مائة ألف لاجئ فقط من حقهم في العودة، فإن ذلك لن يحقق السلام في المنطقة، لأن هؤلاء سيستمرون في النضال من أجل حقوقهم. وأضاف: إنه يجب الاعتراف والإقرار بحق جميع اللاجئين في العودة. أما آلية العودة وكيفيتها، وتنظيمها، وفحص رغبة العودة أو عدمها عند كل فرد.... فذلك كله يتم من خلال المفاوضات.
ثالثاً ـ أما الواقعة الثالثة فهي ما أعلنه الأخ أبو مازن في مقابلة صحافية جرت معه مؤخراً من أنه ابن منطقة الجليل (صفد) ومن حقه أن يعود إلي أرضه .
لو تم اعتماد هذه المواقف كأساس للتعاطي مع حق العودة، فإن ذلك يخلق نوعاً من الاطمئنان والثقة لدي المواطنين الفلسطينيين بشكل عام، واللاجئين بشكل خاص.
لكن ما يجري تداوله هذه الأيام من أحاديث ومواقف عن حق العودة لدي الجانبين الإسرائيلي والأمريكي، وبعض الأوساط التفاوضية الفلسطينية، في إطار التحضير للمؤتمر أو الاجتماع الدولي الذي سيعقــــــد في أواخر تشرين الثاني (نوفمبر الحالي)، يتناقض تماماً مع هذه الأسس، وهو ما يثير تساؤلات كثيرة، ومخاوف كبيرة حــــول كيفية تعاطي هذا المؤتمر مع حق العودة، والنتائج التي قد تصدر عنه.
هذه المخاطر والتخوفات هي عنوان رسالتي الثالثة، وموضوعها. وهي رسالة موجهة للأخ الرئيس أبو مازن، والمفاوض الفلسطيني، والهيئات الشعبية الناشطة في مجال الدفاع عن حق العودة، وللاجئين عموماً، والشعب الفلسطيني بأسره.
إن الأحاديث الجارية تبدأ بتسويق فكرة اعتماد مبدأ الدولة القومية، كأساس للحل أي اعتراف الفلسطينيين والعرب بإسرائيل وطنا ودولة قومية ليهود العالم كلهم. مقابل أن تعترف إسرائيل بالدولة الفلسطينية وطناً قومياً للشعب الفلسطيني. وهنا نقطة الحذر الأولي التي يجب أن نتنبه لها جميعاً، فبمثل هذه المقارنة غير المتوازنة، وغير العادلة أو المنصفة استطاعت إسرائيل في اتفاقات أوسلو أن تجر الطرف الفلسطيني إلي مصيدة الاعتراف بحقها في الوجود، مقابل اعترافها فقط بمنظمة التحرير الفلسطينية ممثلاً للشعب الفلسطيني، ودون اعتراف صريح بالحقوق الفلسطينية الأخري وفي مقدمتها حق العودة، إذ تركت جميعها للتفاوض علي الحل النهائي.
إن حق الشعب الفلسطيني في أن تكون له دولة مستقلة علي ترابه الوطني هو حق طبيعي ومشروع، ومن الطبيعي أن تكون هذه الدولة عند قيامها ملكاً لكل أبناء الشعب الفلسطيني، وراعية لهم ولمصالحهم وحقوقهم أينما تواجدوا. لكن تحقيق هذه الدولة يجب ألا يكون علي حساب الحقوق الأخري أو مقايضتها بها أو المساومة عليها. فالاشتراط الذي تضعه إسرائيل اليوم وتسعي لتحقيقه، وهو الاعتراف بإسرائيل وطناً قومياً لليهود فقط، سيكون اعترافاً بعنصرية إسرائيل وعرقيتها، مع أن اليهودية ليست قومية، بل هي ديانة تسرب منها وإليها الكثير من أبنائها عبر الزمن. واليهود ليسوا عرقاً أو سلالة، بل هم أخلاط عرقية .
كذلك فإن اعتراف الأمم المتحدة بدولة إسرائيل في حدود قرار التقسيم رقم 181، لم يكن علي أساس قومي أو عرقي أو عنصري، فقد نصت بنود هذا القرار علي ضمان الحقوق السياسية والدينية والثقافية للعرب الفلسطينيين الذين أوقعهم قرار التقسيم داخل حدود الدولة الإسرائيلية، والذين كان عددهم لا يقل عن عدد يهود الدولة الإسرائيلية حينها بأكثر من 30 ـ 40 ألف نسمة. بل إن قبول إسرائيل عضواً في الأمم المتحدة كان مشروطاً بقبولها تنفيذ قرار التقسيم رقم 181، والقرار 194 الذي ينص علي عودة اللاجئين إلي أراضيهم وممتلكاتهم التي طردوا منها. وهذه الشروط تنفي شرعية قيام دولة دينية أو عرقية لليهود.
وبالتالي فإن مطالبة إسرائيل بالاعتراف بها كوطن قومي أو ديني لليهود وحدهم، مخالف للشرعية الدولية، وهو ما يجب أن يعيه الجانب الفلسطيني، ويتمسك به.
وإسرائيل بطرحها هذه المطالب، وإصرارها عليها تريد أن تلغي حق اللاجئين في العودة، وأن تقفل أبواب العودة في وجوههم. بل إنها تريد أن توفر أرضية قانونية وسياسية لترحيل وطرد العرب الفلسطينيين الذين يعيشون في دولة إسرائيل. وهذه أمور يجب أن يتنبه لها المفاوض الفلسطيني، وأن يحذر من الوقوع في فخها. وعليه أن يدرك أن شعبنا الفلسطيني لا يمكن أن يقبل بها، ولا يمكنه أن يسمح لأي مفاوض أن يساوم علي هذه الحقوق الثابتة والخالدة.
ولتنفيذ مخططها هذا تستغل إسرائيل لهفة الجانب الفلسطيني وسعيه للحصول علي دولة مستقلة، واستعداده للقبول بها إلي جانب دولة إسرائيل في حدود الرابع من حزيران عام 1967. وتسعي إلي جره إلي القبول بأن مفهوم الدولتين يعني دولتين لشعبين. وهذه خديعة أخري لتسويق مفهوم العرقية والعنصرية، تتناقض تماماً مع مفاهيم الديموقراطية التي تدعيها إسرائيل، أو التي يتبجح بها جورج بوش، والتي يقوم بتدمير العالم، والهيمنة عليه من أجل نشرها كما يدعي. إذ لا توجد دولة واحدة في العالم ينص قانونها أو دستورها علي أنها تخص عرقاً معيناً، أو ديانة واحدة. وليس هناك قبول أو اعتراف متبادل بين أي من دول العالم علي أسس عرقية أو دينية. فلماذا تخص إسرائيل وحدها من بين دول العالم بهذا النوع من الاعتراف؟
كما تتناول بعض الأحاديث السياسية والصحافية إمكانية اعتراف إسرائيل بجزء من المسؤولية عن خلق مشكلة اللاجئين الفلسطينيين، وعن معاناتهم شريطة ألا يعني ذلك اعترافها بحقهم في العودة أو استعدادها لقبول عودتهم. وإنما يمكن تعويضهم مادياً، وتحسين أحوالهم المعيشية.
وللرد علي ذلك نقول: إن الاعتراف بجزء من المسؤولية عن خلق مشكلة اللاجئين (مع أن كل المسؤولية تقع علي عاتق إسرائيل التي احتلت أراضيهم وطردتهم منها) يعني تحمل نتائج هذه المسؤولية وتصحيحها، والعودة عن الخطأ والجريمة التي ارتكبت بحقهم، وإعادتهم إلي ديارهم التي طردوا منها. وليس فقط بالاعتراف بمعاناتهم. فمعاناة اللاجئين لا توقفها أو تنهيها إلا عودتهم إلي ديارهم، وتعويضهم معنوياً ومادياً عن كل الآلام والجرائم والمذابح التي ارتكبت بحقهم علي مدي ستين عاماً تعرضوا خلالها لأقسي أنواع العذاب، وعـــــن استغلال إسرائيل واستثمارها لأراضيهم وممتـــلكاتهم خلال هذه الأعوام الستين. أما أرضهم فهي ملكهم وحقهم، وهي خارج نطاق التعويض.
وإذا كانت إسرائيل تراهن علي أنها يمكن أن تخدعنا أو (تضحك علينا) بالتنازل عن جزء من القدس أو الحرم الشريف، أو السماح بإقامة دولة فلسطينية وفق الشروط الإسرائيلية، مقابل تنازلنا عن حق العودة، وبذلك تحل القضية، وينتهي الصراع، ويتحقق السلام... فإن شعبنا أوعي من أن يقع في هذه الخديعــــة. وعلي إسرائيل، وكل الدول التي تشارك في المؤتمر أن تدرك (وهو ما يجب علي المفاوض الفلسطيني أن يدركه ويتصرف علي أساسه) ما يؤمن به شعبنا من أنه لا القدس ولا الدولة الفلسطينية يمكن أن تكونا بديلين لحق العودة. فحق العودة هو حقنا الأول والأخير.
وانطلاقاً من هذه الرؤية، وعلي أساسها يجب أن يتم اختيار المفاوض الفلسطيني، وأن تكون وطنيته، ونقاء مواقفه وكفاءَته هي مقياس أهليته لاختياره لمثل هذه المهمات. وهذا سؤال تطرحه الأوساط الشعبية: هل تم اعتماد هذه المقاييس عند اختيار الفريق المفاوض؟ أم أن منهم من تتعارض مواقفه مع هذه الثوابت، وسبق له أن أقدم علي خطوات لقيت إدانة ورفضاً من قبل الجماهير الفلسطينية؟ وهذا ما قد يثير القلق والمخاوف، من النتائج التي قد تنجم عن المفاوضات. ويجعل الاستفتاء علي هذه النتائج غير واقعي ولا عادل، فأي قضية تعرض علي الاستفتاء يجب أن توفر لها كل عوامل النجاح وأدواته، حتي تكون القضية المعروضة للاستفتاء مستجيبة وملبية للاحتياجات الوطنية، ومؤهلة لاستقطاب المواطنين وتجاوبهم للاستفتاء عليها، وإلا فإن غياب المضمون الوطني، أو أي مساس بالثوابت الوطنية، في أي قضية، يجعلها غير قابلة للاستفتاء.
وإذا أخذنا موضوع حق العودة كمثال، فهل هو كحق يمكن قبول أصحابه بالاستفتاء عليه؟ أظن أن الجواب واضح ومحدد، الحقوق لا يستفتي عليها، وهذا ما هو معروف وثابت قانونياً وسياسياً وأخلاقياً علي مستوي العالم. فالاستفتاءات لا تجري علي الحقوق، وإنما علي السياسات وآليات التنفيذ. وفيما يتعلق بحق العودة فإن له خصوصية أخري، فهو بالإضافة لكونه حقاً وطنياً عاماً للشعب الفلسطيني، فهو حق خاص وفيه ملكية شخصية لكل لاجئ لا يجوز أن ينوب أحد عن صاحبها في التصرف بها. وبالتالي فإن أي موقف يتعلق بقضية اللاجئين، سواء كان استفتاءً أو قراراً سياسياً يجب أن يكون الرأي الأخير والفاصل فيه للاجئين أنفسهم.
وبصراحة نقول: إن مصدر التخوف علي حق العودة ليس محصوراً فقط بالرفض الإسرائيلي له، أو بتراجع الخطاب السياسي الفلسطيني الرسمي تجاهه، أو في التركيز علي القضايا الوطنية الأخري، وإثارة اهتمام المواطن الفلسطيني بها علي حساب اهتمامه بحق العودة، أو في تراجع اهتمام النظام الرسمي العربي، (بسبب ضعفه واستسلامه للسياسات الأمريكية) بهذا الحق، وبالقضية الفلسطينية عموماً، حيث يغيب حق العودة غياباً شبه تام عن الإعلام العربي، وعن ثقافة المواطن العربي، مما أدي إلي جهل كبير لدي المواطن العربي حول حق العودة ومعناه ومفهومه وجوهريته بالنسبة للقضية الفلسطينية... ليست هذه القضايا كلها وحدها ما يثير المخاوف والمخاطر علي ضياع حق العودة، بل هناك الحصار والتجويع والقتل والاعتقال الذي يمارسه العدو الإسرائيلي ضد الشعب الفلسطيني لإشغاله بهمومه اليومية، وصرفه عن قضاياه الأساسية. وهناك الظلم العربي الرسمي الذي يرتكب ضد مخيمات الشتات وأهلها وتحركاتهم وعملهم، وتضييق الخناق علي لقمة عيشهم لدفعهم للتفكير بالهجرة بعيداً عن حدود الوطن. وهناك الواقع الفلسطيني السياسي المنقسم والممزق والمشغول بمصالحه الذاتية والتنظيمية والفصائلية، وهناك المتباكون علي حق العودة، الذين يدعون التخوف عليه، ويتهمون الآخرين بالتفريط به، وهم من وجه ضربة قاصمة لهذا الحق عندما قاموا بتمردهم وانقلابهم العسكري ليحظوا بالسلطة، فعمقوا الانشقاق داخل الشعب الفلسطيني، وزادوا من صراعاته علي المستوي الفصائلي والعشائري، وعمقوا فيه لغة الثأر والكره والحقد والتخوين عبر الثقافة التي تنشرها وسائل الإعلام. أمام كل هذه المخاطر، المتعددة الجوانب والأطراف، التي تهدد حق العودة أختم رسالتي بتساؤل حول دورنا نحن أطراف الحركة الشعبية الفلسطينية المدافعة عن حق العودة، إن كان يتناسب مع حجم هذه المخاطر؟
بصراحة أقول: إن دورنا لم يرتق، ولم يصل إلي الحد الذي يجعلنا قادرين علي درء هذه المخاطر، وحماية حق العودة. صحيح أن حركتنا نمت، واتسعت، وتزايدت هيئاتها ولجانها في كل مناطق الوطن والشتات، ونجحت في عقد وتنظيم العديد من المؤتمرات والندوات واللقاءات حول حق العودة. وساهمت في التوعية ونشر ثقافة العودة عبر العديد من الكتابات والنشرات. ولكن هذه الحركة ما تزال غير موحدة، وتفتقر إلي التنسيق بين أطرافها، سواءٌ علي مستوي كل ساحة، أو علي النطاق الأوسع.
اطاراتها غير منتظمة، وأغلب فعالياتها تقتصر علي المناسبات وردود الأفعال، وبرامجها غير موحدة. ورغم العديد من المحاولات والمطالبات التي جرت لإيجاد إطار تنسيقي موحد يجمع بين كل الأطراف داخل كل ساحة، وعلي المستوي العام، بهدف خلق حركة شعبية واسعة وموحدة ومتطورة تشكل، بموقفها وجهودها ونشاطاتها، سداً منيعاً في مواجهة هذه المخاطر، بل وتضع هي برنامجاً نضاليا وتطبيقيا للعودة تفرضه، بقدراتها الشعبية وقوتها، علي القيادة السياسية، حول كيفية التعامل مع حق العودة. لكننا، وللأسف الشديد، ورغم تجاوب العديد من هيئات حق العودة، لم ننجح في إنجاز هذه الخطوة، ربما لرؤية تقوم علي المصالح التنظيمية والفصائلية عند البعض، وربما لرؤية ذاتية وشخصية ضيقة عند أطراف أخري تحرص أن يتم ذلك فقط من خلالها، وبإشرافها، ووفق رؤيتها.
المخاطر تشتد، والخناق يضيق، والوقت يمضي، وأرجو ألا يأتي اليوم الذي نندم فيه حين لا ينفع الندم.... واللهم إني قد بلغت فاشهد.