خلال نصف قرن، جاهد الفلسطينيون لتحقيق العودة إلى ديارهم، حاربوا وضحوا بأرواحهم وطردوا من بلاد عديدة، لكنهم فشلوا عسكرياً، ولم يستطيعوا خلق قوة عسكرية متماسكة. طافوا العالم ونادوا في كل المحافل الدولية مطالبين بحقوقهم، فكسبوا مكاسب سياسية مهمة وشرعية ودولية هي أهم ما يميز مكاسبهم، لكنها حتى الآن مكاسب نظرية. وخلقوا مؤسسات وتنظيمات لتؤكد وحدة الشعب الفلسطيني وترابطه رغم تشريده في بلاد عديدة. ولكنها لم تكن في المستوى المطلوب من حيث الكفاءة والتنظيم، وأصيبت هذه المؤسسات بضربة شديدة عند الخروج من لبنان، وجاءتها الضربة القاضية بعد اتفاقية أوسلو.
ليس للفلسطينيين من مستقبل دون العودة إلى التنظيم وترميم مؤسساتهم، وتسليحها بعناصر كفؤة ومهنية من الطراز الأول، لقد انتهى عصر الثورجي والمنافق والسياسي والمنظر، الآن عصر المخطط والمنفذ والمدير، ودون ذلك عبث. عدد الفلسطينيين اليوم 7.5 مليون، منهم 13% في إسرائيل، 33% في الضفة وغزة، أي أن 46% (حوالي النصف) على أرض فلسطين، ويوجد حوالي 42% في دول الطوق، والباقي نصفهم في بلاد عربية أخرى والنصف الآخر في بلاد أجنبية.
ومن حيث حرية التحرك والتجمع والتعبير، فإنهم يعيشون تحت ظل 8 منظومات سياسية على الأقل. (وفي الواقع فإنهم يعيشون في 130 بلداً ويحملون 33 جنسية عدا فلسطين والأردن، ويبلغ عدد اللاجئين المسجلين الذين يحملون جنسيات عربية غير هاتين 50.000 وجنسيات أجنبية 500). ولذلك فإن قدرتهم على اللقاء وتجميع القوى تظل محدودة، ومن حسن الحظ أن معظم المنظومات السياسية التي يخضعون لها تؤيد حق اللاجئين في العودة، أو على الأقل لا تجهر بالعداء له، وإن كان معظمها لم يقدم سوى الدعم الكلامي له. وكل المنظومات تؤيد التعويض، لأن فيه تخفيفاً للأعباء ولإنهاء المشكلة! وبعضها يرغب في استلام التعويض عوضاً عن اللاجئين، ومعظم المنظومات، وليس كلها، ترفض توطين اللاجئين، الأمر الذي يرفضه اللاجئون أيضاً. وهذا من مظاهر الاتفاق النادرة. والقليل جداً يرغب في توطين اللاجئين لديه لأسباب إستراتيجية.
لذلك يبدو أن من الممكن للاجئين التعبير عن الحد الأدنى (والأساسي) من حقوقهم ألا وهو حق العودة، بحرية نسبية، بشرط أن تأمن المنظومات السياسية عدم تحول ذلك إلى حركة سياسية نشطة تتعارض مع أوضاعها الداخلية.
وفي اعتقادي أن هذا ممكن، لأنه لا يوجد خطر حقيقي من عودة اللاجئين على أي بلد عدا إسرائيل، وهذه عدو مزمن. وفي اعتقادي كذلك أن كبح جماح حرية التعبير والتجمع قد أصبح صعباً بسبب القوة المتنامية لجمعيات حقوق الإنسان التي تشبه برلمانات موازية لدول العالم، كما أن الحصار الجغرافي والفكري قد أصبح قليل الجدوى بسبب انتشار الأقنية الفضائية والإنترنت. إن الثورة التكنولوجية والتغيير الإيجابي في أهمية حقوق الإنسان هي أكبر معين، بل حافز، للاجئين للمطالبة بحقهم في العودة، وهذا الوضع سيتطور إلى الأفضل خلال القرن القادم.
ويكفي أن نعلم أنه يوجد حوالي مليون فلسطيني نتاج هذه الثورة التكنولوجية، معظمهم في أوربا وأمريكا والخليج، وهم جزء أصيل من تلك الثقافة، وبعضهم مولود في تلك البلاد. إن القوة البشرية المتمثلة في هذا المليون (على الأقل) هي ثروة لا يستهان بها وهي المولد الحقيقي للطاقة المطلوبة.
وأول ما يلزم لتحقيق حق العودة هو إنشاء المؤسسات اللازمة لذلك، وتطوير الموجودة منها، والتنسيق بينها وبين عشرات، بل مئات، المؤسسات المتعاطفة مع الشعب الفلسطيني في العالم. يلزم أولاً إنشاء وحدة أو وحدات للدراسات الاستراتيجية كالآتي:
وحدة دراسات قانونية، وتشمل: التشريعات والقرارات الدولية والسوابق المشابهة قوانين إسرائيل، الخبرات العالمية المتوفرة.
وحدة دراسات الجغرافيا التاريخية، وتشمل: تحديد المساحات والممتلكات والموجودات وأسماء المالكين ورصد التغيرات الحادثة، وتحضير الخرائط والصور الجوية والفضائية.
وحدة الدراسات العمرانية والاقتصادية، وتشمل: وثائق المطالبات، وتقييم التعويض لكل بند، والدراسات الاقتصادية اللازمة للاستيعاب والتطوير، والمخططات الهيكلية لإعادة بناء القرى، وترميم المدن الفلسطينية الموجودة.
لكن الحاجة القصوى والفورية تكمن في ضرورة تكوين "هيئة أرض فلسطين".
هيئة أرض فلسطين
يجب تكوين "هيئة أرض فلسطين" على النحو الآتي:
- الهيئة تمثل اللاجئين والمطالبين بحقوقهم من الشعب الفلسطيني في كل مكان.
- الهيئة تمثل الحقوق المادية للشعب الفلسطيني في كل مكان.
- مهمة الهيئة هي: توثيق الأملاك الفلسطينية العامة والخاصة، واسترجاعها وحمايتها وصيانتها وحفظها وتطويرها كما يلزم.
- تكون الهيئة هي الحارس على حقوق الشعب الفلسطيني في كل مكان، وتبقى كل الأملاك الفلسطينية تحت حراستها إلى أن تحدد ملكية الأفراد وتسلم إليهم.
- في المرحلة الوسيطة إلى أن تسلم أملاك الأفراد، تطور الهيئة هذا الأملاك وترعاها، وفي حالة رغبة بعض اللاجئين في التخلي عن أملاكهم، تشتريها الهيئة أو تحتفظ بها إلى أن يشتريها فلسطيني آخر، والأولوية للجار والقريب والأنفع، ولا تؤول أية ملكية لغير الفلسطينيين.
- الهيئة مستقلة وغير سياسية، وتتعاون مع منظمة التحرير والسلطة الفلسطينية والحكومات المختلفة والأمم المتحدة على هذا الأساس.
- تبقى الهيئة قائمة إلى تنتهي كل أغراضها، وتحل بقرار من الأغلبية المطلقة.
تتكون الجمعية العامة للهيئة من 1500 عضو، يمثلون 532 قرية ومدينة طرد منها اللاجئون، بمعدل 3 أعضاء لكل قرية في المتوسط (أي عضو لكل 3000 لاجئ في الوقت الحالي)، وهؤلاء الأعضاء ينتخبون من كل مجموعة سكانية (قرية أو مدينة) على أن يشمل هؤلاء: المخاتير والملاك المهمين، ويضاف إلى هؤلاء خمسون عضواً يعينون لكفاءتهم في تحقيق أهداف الهيئة.
ويمكن اعتبار القرية وحدة القياس، ذلك لأن سكانها يمثلون 4 - 5 حمايل لا تزال متماسكة ومرتبطة، كما أن أراضي القرى محددة جيداً على الخرائط، ولذلك فإن كل قرية تمثل الإرث الجماعي لأهلها، وإلى أن يتم تحديد ملكية كل فرد، تقوم الهيئة بتخصيص عدد من الأسهم لكل قرية حسب حجمها، ثم تحدد قيمتها المادية، وتمثل الهيئة كل الأسهم التي يغيب صاحبها، وهكذا فإن ملكية أرض كل قرية تكون صحيحة تماماً لكل قرية، وتكون أقل صحة لكل حمولة، واقل صحة لملكية كل فرد، حيث أن عدد سكان القرى قد زاد منذ عام 1948 خمس مرات ونصفا، لكن الخطأ على قلته يبقى محصوراً داخل كل قرية.
ومن أجل حصر الملكية الفردية، فإنه يمكن الاستعانة بسجلات لجنة التوفيق، ولديها 450.000 سجل لأسماء الأملاك الأفراد. هذه السجلات موجودة، لكنها تمثل 5.194 كم مربع فقط من أصل 17.178 كم مربع مجموع أملاك اللاجئين، باستثناء أملاك الفلسطينيين الموجودين في الداخل والتي صودر نصفها.
ورقم 5.194 كم مربع يمثل أملاك الأفراد الذين أمكن تسجيلهم في عهد الانتداب البريطاني، وبإضافة قضاء بئر السبع (12.577كم مربع) والأملاك العامة والخاصة غير المسجلة، يكون المجموع هو 18.643 كم مربع مساحة الأراضي الفلسطينية في إسرائيل أو 92% من مساحتها.
برنامج العودة
عندما يأتي الوقت (وهو لا شك قادم) لتحقيق حق العودة، فإن تنفيذ ذلك لا يشكل مشكلة عملية. لقد أدخلت إسرائيل 650.000 يهودي في الفترة 1949 - 1951 في ظروف حرب وبعد رحلة آلاف الكيلو مترات، وأدخلت حوالي مليون روسي خلال العقد الماضي، دون ازدحام مطار اللد.
عندما يعود اللاجئون، لا تحتاج رحلتهم بالباص إلى أكثر من ساعة أو ساعتين، إذ يعود سكان قضاء بئر السبع وغزة والرملة ويافا من قطاع غزة متجهين شمالاً، ويعود سكان الوسط من الضفة الغربية متجهين شمالاً، ويعود سكان الجليل من سوريا ولبنان متجهين جنوباً، وتعود كل قرية إلى مكانها المعروف والمحدد على الخرائط بدقة.
فمنذ البداية يذهب شباب القرية وقوة عاملة من الاونروا مكان القرية لبناء مساكن حديثة (56% من مساكن القرى دمر، أما مساكن المدينة فلم تدمر ولكن تحتاج إلى ترميم)، وعملية التعمير هذه لا تشكل مشكلة فنية، حيث أنه يوجد عدد كبير من المهندسين والعاملين الفلسطينيين الذين بنوا آلاف المساكن في الخليج وغيرها، هذا فضلاً عن وجود 21.000 فلسطيني يعملون في الأونروا، كما أن مواقع القرية، وتنظيم عملية العودة من حيث المتطلبات اللوجستية والعملياتية هو أمر ممكن، ولن يكون بحال أعقد وأصعب من عملية (عاصفة الصحراء).
أما الأوضاع القانونية فلا تمثل أي تعقيد من حيث المبدأ، ذلك لأن الأراضي الفلسطينية مسجلة باسم الحارس على أملاك الغائبين التي حولها إلى هيئة التطوير، والأملاك التي تستغلها دولة إسرائيل والتي يملكها الصندوق القومي اليهودي، تدار كلها بواسطة مؤسسة واحدة: هي دائرة الأراضي في إسرائيل، ولديها خرائط ووثائق بالملكية الأصلية لكل قطعة أرض، وبموجب ذلك، فهي تؤجر للمستعمرات الأرض الفلسطينية بعقود مدتها 49 سنة ينتهي معظمها في 1998. ولذلك فإنه لا توجد، إلا في أضيق نطاق، حالات نزاع بين أفراد يهود وأفراد فلسطينيين حول الملكية، لأن اليهود مستأجرون وليسوا مالكين، ولذلك فإنه من ناحية قانونية، يكفي تحويل الحيازة من حارس أملاك الغائبين إلى (هيئة أرض فلسطين) بتشريع أو اتفاق واحد.
ومن الضروري بالطبع بقاء الأونروا، تقدم خدماتها، للاستفادة من خبرتها الهائلة خلال نصف قرن، إلى أن يستقر اللاجئون في مواطنهم ويبدأون معيشتهم بشكل طبيعي، ثم تتحول الأونروا إلى منظمة تطويرية للمشاريع مثل منظمة الأمم المتحدة.
ويحصل كل لاجئ على بطاقة هوية فلسطينية، وذلك بتحويل بطاقات اللاجئين من سجلات الأونروا التي تحتوي على 3.400.000 اسماً في الوقت الحالي، بالإضافة إلى 1.240.000 لاجئ خارج السجلات (عام 1994)، وتبقى الهوية الفلسطينية ثابتة رغم حصول الفلسطيني على جنسية أخرى بما فيها الفلسطينية (دولة فلسطين المصغرة) أو الإسرائيلية، ويحق للعائدين إلى ديارهم في إسرائيل التمتع بجميع الحقوق المدنية والدينية. أما حقوقهم السياسية فتتبع الجنسية التي يحملونها. وموضوع الجنسية موضوع منفصل ولا علاقة له بحق اللاجئ في العودة إلى أرضه.
وتتم كل عمليات العودة تحت إشراف الأمم المتحدة (لجنة التوفيق CCP)، وهي التي تتولى الإشراف على عودة اللاجئين بموجب صلاحيات دولية واسعة، كما تقوم بتأهيلهم اجتماعياً واقتصادياً، وحمايتهم من أي تمييز ضدهم، وتوفير الأمن الفردي والجماعي لهم تحت كل الظروف.
هذا هو، في مجمله، المخطط المقترح لعودة اللاجئين، وكما هو واضح، فإنه لا توجد فيه مشكلة عملية يصعب حلها، عكس ما يدعيه المشككون، وقد سبق أن أوضحنا أن العودة ممكنة من ناحية سكانية وزراعية ومائية دون ترحيل أي من اليهود، كما سبق أن أوضحنا أن مشاريع التوطين كلها خرافية وغير واقعية وقد رفضت جميعها، وسترفض في المستقبل.
يبقى سؤالان: هل يتخلى اللاجئون عن حقوقهم؟ وهل توافق إسرائيل على عودة اللاجئين؟
السؤال الأول سهل، فلا توجد أية دلالة، رغم أوسلو والمشككين والمتخاذلين، على أن الغالبية الساحقة للشعب الفلسطيني ستنسى وطنها وتتخلى عنه، وقد أثبتت ذلك الأجيال المتعاقبة، وهي الآن مسلحة بالعلم والمعرفة، أما السؤال الثاني: موافقة إسرائيل على عودة اللاجئين فهذا غير وارد في الوقت الحالي. فهي تريد الاحتفاظ بالمكاسب المادية الهائلة التي سلبتها من الفلسطينيين، وتريد الحفاظ على الغيتو العنصري الذي يقوم على مبدأ النقاء اليهودي. ولكن هذا يجب ألا يثبط همتنا، فالعدو لا يمكنه إعادة الحقوق طائعاً مختاراً.
وإسرائيل بذلك تكون آخر معقل في العالم للمبادئ العنصرية بعد سقوط ألمانيا النازية وإيطاليا الفاشية وجنوب إفريقيا العنصرية. إن نظرة جدية لحال العالم اليوم وفي المستقبل القريب، تبين أنه ليس هناك مستقبل لإسرائيل العنصرية، فالعالم يصغر كل يوم بالاتصالات، ويتبادل الأفكار والتجارة، ويجسد حقوق الإنسان ويهتم بكل اغتيال لها في أي مكان. وقد يأتي يوم ليس ببعيد نرى فيه الصراعات الداخلية في إسرائيل تأخذ مجري دموياً يكشف التناقضات فيها. ثم أن هناك العنصر الفلسطيني في إسرائيل الذي يتزايد ثقله السياسي. كل هذه العوامل تجعل مقاومة إسرائيل للديمقراطية، واستمرارها بالتفرقة العنصرية بموجب العرق والدين، مقاومة يائسة مصيرها الانهيار.
لكن أكبر قوة لدى الشعب الفلسطيني لاسترجاع حقوقه هي إصراره على العودة، ذلك الإصرار الذي يتوارثه الأبناء عن الأباء، ليس عاطفة فقط بل علماً ومعرفة وتنظيماً، هذا الإصرار هو الثروة الحقيقية وهو وقود الطاقة التي لا تنضب على طريق العودة.